القائمة الرئيسية

الصفحات

تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية

 قسم الشاطبي البدعة إلى قسمين: حقيقية, وإضافية. وعرف الحقيقية بأنها ما لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب, ولا من سنة, ولا من إجماع, ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل  (1) . وإن ادعى مبتدعها ومن تابعه أنها داخلة فيما استنبط من الأدلة، لأن ما استند إليه شبه واهية لا قيمة لها. فكأنها هي البدعة حقيقة وما عداها على المجاز  (2) .

ومن أمثلتها:
أولا: تحريم الحلال, أو تحليل الحرام استناداً إلى شبه واهية, وبدون عذر شرعي, أو قصد صحيح، روى الترمذي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي. فحرمت عليَّ اللحم فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا [المائدة: 87-88] (3) .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك, فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثواب ثم قرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ (4) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه: (فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد, ولا يستظل, ولا يتكلم, ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم, وليستظل, وليقعد, وليتم صومه))  (5) .
وقد تبين من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لفت نظره هذا المنظر أثناء خطبته والناس قعود. رجل قائم في الشمس, فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك المنافي لرفق ويسر الشريعة السمحة، فأمر بتقويمه وقال: مروه فليتكلم، وليستظل, وليقعد, وليتم صومه.
فالله غني عن مشقة هذا التي لا فائدة وراءها، وأقره على ما فيه فائدة ولا مشقة معه وهو الصوم.
يقول ابن حجر في الحديث من الفوائد:
(إن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلاً مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة, كالمشي حافياً, والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله. فلا ينعقد به النذر, فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره, وهو محمول على أنه لا يشق عليه, وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل)  (6) .
وروى البخاري بسنده: عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم. فقال: ما لها لا تتكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل. هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين)  (7) . وفي ذلك ما يفيد أن تحريم الحلال مخالف للشرع, بل من عمل الجاهلية, فإحداثه على أنه مما يقرب إلى الله من البدع. وسواء في ذلك أكان التحريم مؤكداً بيمين أم لا.
ومما تقدم من الأحاديث نستنتج الأمور الآتية:
1- إن البدع قد بدأت بوادرها في عهد النبوة كما تبين من تحريم أناس بعض ما أحل الله. فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
2- إن هذه البدع قد فعلها أصحابها بدافع التقرب إلى الله, فلم يقرهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بدعة محدثة.
3- إن ذلك كان في مجال العبادة فعلوها للتزود من الخير, ولكن ليس كل مريد للخير يسلك الطريق الصحيح الموصل إليه.
4- إن الرسول صلى الله عليه وسلم قاوم هذا الاتجاه وقوم هذه المغالاة.
(5) إن ذلك الإحداث والغلو كان منحصراً في أفراد لا جماعات, بخلاف ما وصل إليه حال المسلمين في هذا الزمان، فإن البدع أصبحت تشكل جماعات وأحزاباً مختلفةكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53].
أما تحليل الحرام فيتمثل في تلك الآراء الفاسدة التي تحلل الربا بشبه واهية، أو تفتي بعدم جواز قتل المرتد، مع ورود الأحاديث الصحيحة في ذلك، استناداً إلى ما لا يجوز الاستناد إليه كما فعل صاحب كتاب الحرية الدينية في الإسلام.
ثانياً: ومن البدع الحقيقية اختراع عبادة ما أنزل الله بها من سلطان, كصلاة سادسة مثلاً بركوعين في كل ركعة أو بغير طهارة.
ثالثاً: ومنها إنكار الاحتجاج بالسنة، أو تقديم العقل على النقل, وجعله أصلاً والشرع تابع له.
رابعاً: ومنها القول بارتفاع التكاليف عند الوصول إلى مرحلة معينة مع بقاء العقل وشروط التكليف، فلا تجب عند ذلك طاعات, ولا تحرم محرمات, بل يصير الأمر على حسب الهوى والرغبات.
خامساً: ومن هذه البدع تخصيص مكان كبئر, أو شجرة, أو نحوها بخصوصية معينة من اعتقاد جلب خير, أو دفع ضر, بلا استناد إلى خبر صحيح.
أما البدعة الإضافية فقد عرفها الشاطبي بأنها ما لها شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة.
والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، أي أنها بالنسبة لأحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل، وبالنسبة للجهة الأخرى بدعة، لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو لأنها غير مستندة إلى شيء.
وسميت إضافية لأنها لم تخلص لأحد الطرفين، لا بالمخالفة الصريحة ولا بالموافقة الصريحة.
والفرق بين البدعة الحقيقية والإضافية من جهة المعنى أن الدليل على الإضافية من جهة الأصل قائم, ومن جهة الكيفيات, أو الأحوال, أو التفاصيل لم يقم عليها. مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة  (8) . ومن أمثلتها: ذكر الله تبارك وتعالى على هيئة الاجتماع بصوت واحد. فالذكر مشروع بل واجب, لكن أداؤه على هذه الكيفية غير مشروع, بل هو بدعة مخالفة للسنة, وعليه يحمل قول ابن مسعود للجماعة الذين كانوا يجتمعون في المسجد وفي أيديهم حصى, فيسبحون ويكبرون بأعداد معينة حيث قال لهم: (والله لقد جئتم ببدعة ظلماً, أو فضلتم أصحاب نبيكم علماً)  (9) . ومن أمثلته أيضاً: تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام, وليلته بقيام، وإفراد شهر رجب بالصوم أو عبادة أخرى.
فالعبادات مشروعة, ومنها الصوم, لكن يأتي الابتداع من تخصيص الزمان أو المكان إذا لم يأت تخصيص ذلك في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والبدعة الإضافية أشد خطورة من الحقيقية من حيث الشبه التي يستند إليها المبتدع في فعلها، فإنك إذا سألته عن دليل ذلك قال: إنه يذكر الله, ويصوم لله, فهل الذكر والصيام محرمان؟ ومن ثم يستمرئها, ويداوم عليها, وقد لا يتوب منها في الغالب، ذلك أن الشبهات أخطر الأمور على الدين, فهي أخطر من الشهوات وإن كان الجميع خطيراً، لأن إبليس اللعين لما يئس من تضليل المسلمين بالمعاصي دخل عليهم من باب العبادة, فزين لهم البدع بحجة التقرب إلى الله. وهنا مكمن الخطر. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذه المداخل الشيطانية قد جلَّاها ووضحها ابن الجوزي رحمه الله في كتابه تلبيس إبليس فليراجع.  (10)

هل اعجبك الموضوع :

تعليقات